شوقي مسلماني: ما زلت أراوح في الكتابة بين العامية والفصحى

عرفته، منذ وصوله الى أستراليا، قلماً شامخاً لم يشحّ حبره، ولم تكسره الغربة. ضربتنا الشيخوخة معاً، وبقيت صداقتنا فتية ومشعة كشمس قريته كونين في الجنوب اللبناني الصامد.
عندما قررت أن أحاوره، خفت أن يستغل ثغرة ما في لقائي ليبدأ هو بالحوار وأبدأ أنا بالاجابة، كيف لا وهو الاعلامي المحنك، الذي تألقت الغربة على صفحات ابداعه حتى أضحت وطناً، نحبه ونخاف عليه، لا بل نخشى مفارقته. إنه الشاعر المهجري شوقي مسلماني.
أجرى الحوار شربل بعيني
ـ  شوقي مسلماني يكتب المقالة، ويكتب القصيدة، فأين تجد نفسك أكثر: إعلاميّاً أم شاعراً؟.
حقّاً إنّي أكتب المقالة، وخصوصاً السياسيّة، منذ عام 1978، وحقّاً كتبتُ القصيدة منذ عام 1967، أي وأنا عمري عشر سنوات. والحق أيضاً إنّ كلّ إنسان هو شاعر، بهذه الطريقة أو تلك. الإنسان شاعر وهو يرسم، وشاعر وهو يعزف الموسيقى أو يُغنّي، وشاعر وهو ينحت أو يرقص أو يمثّل في فيلم أو مسرحيّة أو مسلسل أو دعاية وما شابه، وأحرى به أن يكون شاعراً وهو يكتب، حتى وهو يكتب المقالة السياسيّة.  وطبعاً الإنسان شاعر في سلوكه وحديثه ولطافته وضحكته، وبمعنى آخر إنّ الشعر يخترق كلّ شيء في الوجود. وكما يبحث الإنسان عن الخليّة المسؤولة عن عاطفة التديّن في دماغ الإنسان، عساه يوماً يبحث عن الخليّة المسؤولة عن الشِعر فيه. وبعدُ كيف تريدني صديقي شربل، والذي ذاتك كتبتَ القصيدة وكتبتَ المقالة السياسيّة واشتغلتَ في الإعلام عقوداً من السنين، أن أفصل هكذا عاموديّاً بين مجالين هما في البعد الأخير واحد؟. طبعاً المقالة هي المقالة، والإعلامي غير الشاعر، فلكلّ منهما حقله المختلف على نحو أو آخر، ووسيلته للتأثير مختلفة، وليس كلّ ذلك هو الأصل، إنّما الأصل أن أكون قد أثَرتُ اهتمامَك عندما كتبتُ المقالة وعندما كتبتُ القصيدة، وإلاّ فمن يخفق في الحالين، فلا هو إعلامي ولا هو شاعر.
ـ كيف تنظر إلى ما تكتبه من شعر، وإلى ما ينظمه شعراء آخرون عرب في سيدني وعموم أستراليا؟. 
ما يكتبه الشاعر قد يكون في عينه أحلى الشعر، ولكنّ الآخر قد يكون له تقويم آخر ووجهة نظر معاكسة، وقد تكون القصيدة مركّبة، وقد يحبّذها الآخر بسيطة، وقد ينجم عن التركيب سوء فهم يدفع الآخر لأن يقول لك إنّه لا يفهمك، وهنا معضلة. والصدق إنّ أغلب أعمالي الشعريّة التي كتبتْ عنها صحف لبنانيّة وعربيّة، ومنها النهار والسفير البيروتيتين والحياة اللندنيّة وإيلاف الباريسيّة، مثالاً لا حصراً، وكتبتْ عنها بالثناء، تجد صعوبة في الوصول إلى كثيرين. هناك ذائقة زجليّة سائدة، بمعنى إنّ السائد هو شروط قصيدة الزجل التي منها الوصول فوراً إلى الآخر سمعياً من المرّة الأولى لانطلاقها، وهذه مع تعقيدات الحياة والعصر شبه متعذّرة على قصيدة النثر التي أحاولها أو أقاربها، فضلاً عن المصاعب التي تواجهها قصيدة النثر إلى اليوم في بلاد العرب، وهي التي تقوم على بناء تجد فيه الذائقة الشعريّة العاموديّة والتفعيليّة ـ الفصحى والعاميّة غربةً كاملة، ولذلك أنا أكتب القصيدة من دون أيّ ادّعاء. ولا أخفيك صديقي إنّي الأقلّ بين الزملاء احتفاءً بما أُنجز، ولا أُطري نفسي، وإن كنت لا أمانع إطراء الآخرين لي، ولكنّ الإطراء نوعان: هو قد يكون كاذبا أو مجامِلا، وقد يكون صادقاً. وخوفاً من الإحتمال الأوّل لا أطري نفسي، فقد أكون أغشّها، وهذا أخطر ما يرتكبه الإنسان من شواذات بحقّ نفسه. وحتى الإنسان عموماً ينتهي عندما يقول إنّه قد وصل. وفي ما يخصّ الشقّ الثاني من السؤال فأريد أن أكون صريحاً معك على عكس منهجي غالباً في الحياة، وأقول إنّ الشعر العربي في سيدني فصيحاً وعاميّاً كثير، ولكن الجيّد والنوعي منه قليل، وإنّ الإدّعاء كثير.. والواقعيّة والتواضع قليل.
ـ أعرف إنّك تتّقن كتابة القصيدة العاميّة، ومع ذلك تنشر الفصيح. ما هو السبب؟.
منذ داهمني الشعر فتيّاً وأنا أراوح في الكتابة بين العاميّة وبين الفصحى، حتى اتّجهت نهائيّاً تقريباً إلى الأخيرة. وكلّ ذلك من دون تخطيط مسبق منّي، فأنا هكذا، وأذهب مع ما أنا عليه، وأنا مؤمن إنّ القصيدة هي القصيدة، وأقصد القصيدة الجيّدة طبعاً، مهما كان لونها أو جنسها أو شكلها أقدّرها حقّ قدرها، وأعطيها من حبّي بقدر ما أستطيع، فبالنهاية.. الفنّ هو المعيار، وهو البوصلة، وهو الأساس، ومن ارتقت فنيّته ارتقت منزلته الشعريّة، ومن يتجاوز الفنيّة يتخطّاه الفنّ، وإلى الفنيّة فليتسابق المتسابقون. أحبّ القصيدة العاميّة وأتذوّقها كأختها الفصيحة العاموديّة أو النثريّة، وأيّ شكلٍ اتّخذتْ، وما يحضر بالإلهام فأهلاً وسهلاً به. وهل تذكر صديقي شربل في زمان قديم قصيدة لك بعنوان "قرف"؟. ويومها جاريتك فيها بقصيدة طويلة قائلاً في مطرح منها: ".. يا شربلْ خَفِّفْ عنَّكْ \ وْما تْعِيدا كلمةْ قرْفانْ \ شو بدُّنْ منّي ومنَّكْ \ أسياد الحُكم بْلبنانْ \ عَ طول يْبَيِّنْ سِنَّكْ \ عُمرَك ما تغفَى زِعلانْ \ وِانْ هجْمولَكْ عَ قِنَّكْ \ وْما خلّوا قِرْقَه وْصِيصَانْ \ قِلُّنْ بِالتِّم الْملْيَانْ: \ كلّ الحق عْلى الطِّليانْ!.
ـ هل صحيح إنّ الشعر فقد وهجه؟. وإذا ذلك صحيح فما السبب برأيك؟.
لا أعرف إذا الشعر قد خفت وهجه أو فقد وهجه، ولكن أعرف إنّ الإنسان القديم وجد في الشعر احتمالات كثيرة، منها إمكان الحفظ مع انعدام الكتابة. وتحت تأثيره الجمالي تمّ رفع الشاعر إلى مستويات صوّرته غير عاديّ، ومتّصل بعوالم غيبيّة، وبمعنى فإنّ الشاعر استفاد من الشعر كثيراً بغياب الكتابة تحديداً، إنّما مع حضور الثانية واتّساع رقعة انتشار فنيّات غير فنيّة الشعر جرت تحوّلات لا تزال تعمل إلى اليوم مع ما في اليوم من قفزات استحوذت على اهتمام أكبر وأكبر. ومع ذلك فإنّ الشعر لا يزال هو البؤرة، وكلّ ما لا يخالطه الشعر بقوّة، وخصوصاً في مجالات الفنّ الكثيرة، يفقد الكثير من مميّزاته ورقيّه.  فانظر في ما يُقال بشعريّة قصّة أو رواية أو فيلم سينمائي أو منحوتة أو معزوفة، وعلى رغم كلّ شيء فأقول إنّ قرّاء القصيدة اليوم، وبفضل التكنولوجيا المتطوّرة أبداً، هم أكثر ممّا كانوا عليه في أي زمن أو حقبة من عمر الإنسان انقضتْ. أخمّن ذلك من ضمن حسابات خاصّة، عمادها انتشار الكلمة المكتوبة بمختلف الوسائل، وأخيراً الكترونيّاً، والأخيرة تفتح فضاءات تفترض متلقّين ومتذوّقين للشعر يمكن تصوّرهم مع إمكان تصوّر الفضاءات التي يفتتحها عالم التكنولوجيا اللانهائي.
ـ لك كتاب بعنوان: "كونين لطائف وطرائف " وهو عبارة عن قصص واقعيّة من حياة أبناء بلدتك كونين خلال القرن الفائت ـ القرن العشرين، فهل سيكون لهذا الكتاب شقيق، علماً إنّه الأوّل في بابه لجهة تسجيل حياة أناس محدّدين في بقعة مكانيّة محدّدة وفي زمان محدّد؟.
الحقّ إنّي غادرت كونين ولبنان إلى أستراليا، وذلك في سنة 1977، وانقضت أكثر من عقود ثلاثة قبل أن أزور لبنان وبلدتي كونين في جنوبه، وذلك في سنة 2013، وما رأيته أربكني، فلم يعد شيء على حاله. بيروت تغيّرت كثيراً، صارت ركام حجارة، وكذلك كلّ مدن لبنان، وبلدتي تغيّرت بحدود يفوق التصوّر مثل قرى لبنان جميعاً تقريباً، طبعاً لا شيء يبقى على حاله، ووجدت إنّ الناس قد تغيّروا في سلوكهم وعاداتهم وأعمالهم وأهدافهم وتطلّعاتهم، وقد تكون الحرب التي استطالت سنوات وسنوات قد حفرت بألم في النفوس، فالضيق كثير والعصبيّة كثيرة والمرح والإنشراح هما الأقلّ، فاستذكرت الأيّام الخوالي، وقلتُ بتسجيلها مسابقاً الزمن، وسيكون شقيق لهذا الكتاب، إنّما متوخيّاً الحذر أكثر لئلاّ أتسبّب بضيق لبعض قد أكون خدشت حياءه بجرأتي على استخدام مفردات كانت مقبولة عند الأجداد والأباء يتحسّس منها الأبناء اليوم. كانت روح النكتة أقوى عند الأجداد والآباء، فيما هي أقلّ اليوم، وبالتالي فالتسامح أقلّ. وقد بلغني إنّ أحدهم استُثير إذ ذكرتُ الأحوال الإقتصاديّة البائسة لأحد الأجداد الذي له حفيد يرقد على كنز، وإن بجهده، ويريدنا أن نقتنع إنّه وارث، فهو ثري عن ثري عن ثري، أي يستعيب بالفقر. وإجمالاً كلّ ما يهمّني من كتاب كونين لطائف وطرائف إنّه فتح الباب لأن يُسجّل أبناء القرى ما كانت عليه بلداتهم ماضياً. وأرجو أن يكون الذين تأثّروا بالفكرة كثيرين.
ـ ماذا يعني لك أن تُكرّم شعريّاً عبر السنين من الجالية المصريّة ممثّلة بالإتّحاد الثقافي الوطني المصري الأسترالي، والجالية العراقيّة ممثّلة  بمؤسّسة المثقّف العربي والباحث الإسلامي المتنوّر ماجد الغرباوي، وثانية باسم جريدة بانوراما ورئيسة تحريرها الشاعرة والأديبة والكاتبة العراقيّة الأصل وداد فرحان، وثالثة باسم رابطة عبد الوهّاب البياتي للشعر والثقافة ممثّلة بالأديب الأب يوسف جزراوي، بالإضافة إلى جائزة الملتقى الثقافي ـ الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي يرأسه الدكتور علي حيدر، وجائزة شربل بعيني الأدبيّة برعاية ملتقى الحرف ـ مدينة جبيل لمؤسّسها الدكتور الراحل عصام حدّاد، وغيرها وغيرها، وأخيراً ثلاث شهادات تقدير استلمتها في قاعة "والارا" داخل البرلمان الأسترالي؟.
أيضاً الحقّ إنّ مؤسّسة إنماء الشعر برئاسة الأديبة والشاعرة الدكتورة بهيّة أبو حمد مشكورة على مبادرتها الكريمة. والحقّ إنّي استلمت مع غيري من الفائزين 3 شهادات تقديريّة، واحدة باسم زعيم المعارضة العمّاليّة السيّد لوك فولي، وقد كان في مقدّم الحضور مع وزير التربية في حكومة الظلّ السيّد جهاد ديب، وثانية باسم لبنان والقنصليّة اللبنانيّة في سيدني وسعادة القنصل العام جورج بيطار غانم، وثالثة باسم مؤسّسة الإنماء الشعري. وفي سؤالك أعفيتني مشكوراً من ذكر الجوائز الكثيرة التي تلقّيتها عبر السنين الماضية. أمّا ماذا تعني لي هذه الجوائز فالحقّ إنّها تعني الكثير لجهة إنّ تكريمي أعتبره تكريم لوطني الأوّل لبنان، كما هو تكريم لأستراليا وطني الثاني الذي يسمح بتكريم الذين عندهم ما يقولونه فنيّاً. والتكريم في البرلمان أهميّته إنّه أوّل تكريم لشعراء لبنانيين في مؤسّسىة أستراليّة حكوميّة عريقة لها حيثيتها التمثيليّة العالية، كما ظهر في الإعلام المحلّي والعربي المسموع والمكتوب والمرئي، وهذا شرف كبير. وفي آن أُلفت النظر إلى وجوب البحث عن الشعراء اللبنانيين الذين نشأوا في أستراليا ويكتبون باللغة الإنكليزيّة فالمهم في المآل الأخير أن تستمرّ شعلة الشعر ذات النكهة اللبنانيّة والعربيّة في شبه القارّة الأستراليّة.
ـ ما هو جديدك القريب؟.
قبل أكثر من عشر سنوات، وبطلب من صحيفة النهار البيروتيّة ورئيسة تحرير صفحتها الثقافيّة الشاعرة جمانة حدّاد، بدأتُ بترجمة قصائد لشاعرات وشعراء أستراليين نُشِرت جميعها في حينه في النهار ذاتها. واليوم أعمل على جمع هذه القصائد فتكون انطولوجيا شعريّة أستراليّة بعنوان: "عندما ينظر الله في المرآة" أرجو أن تلقى النجاح أو القبول على الأقل. وبذلك أكون قد قدّمت خدمة لوطني الثاني أستراليا معرِّفاً بمبدعيه بقدر الإمكان، وهم حقيقون بأن يُعرفوا أكثر وأكثر في لبنان وعموم الوطن العربي.

ـ وأخيراً؟.
أخيراً هذه القصيدة التي سيغنّيها الصديق الشاعر والفنّان غسّان علم الدين في قاعة الأونيسكو ـ بيروت احتفاء بقصيدة النثر العربيّة وهي بعنوان: (الشجر مثلهم يموت واقفاً): لأنّهم رفعوا رايةَ دمِهم \ لأنَّ الشمسَ تزهر بأكفِّهم \ لأنَّ النسائم الرقيقة تزدهر \ تخفقُ بها جنباتُ قلوبِهم الكبيرة \ يا شمسُ أشرقي مِنْ ناحيتِهم البعيدة. \\ مثلما شمسان: الليلُ والنهار \ مثلما الريح تلوّن والماء يلوِّن \ يعانقون الشمسَ كما يليق بكلّ شمس \ تداعب أناملُهم ثمارَ الزيتون \ في بيّاراتهم القديمة \ أولئك القديمون \ ولا يزالون يولدون أشدّاء \ بزهرِ برتقال حبِّهم \ لناحيتهم.  \\ مثلما شمسان: الشمسُ والقمر \ مثلما لهم ناحيتهم \ وناحيتهم لهم \ مثلما شمسان: هي وهو \ ومثلما شموس تنظر بحسد \ بحضرةِ شمس. \\ مثلما يليقُ الأزرق \ بالبحيرات الكبيرة والبحار \ مثلما تليقُ الخُضرة \ ويليقُ البنفسج \ ويليقُ زهرُ الصبّار الأصفر المبتسم \ يليقون بناحيتهم \ الناسُ الذين يموتون \ كما قال مغنّيهم \ كالأشجار واقفين. \\ الذين تشعّ الدموع على خدودِهم \ حين يفرحون وحين يحزنون \ الذين يجرحون أيديهم \ إذا لم يجدوا ماءً \ لإحياء نبتة. \\ مرّات \ يتصاعدُ دخانٌ أسود \ عندما لا تريد للجراد أن يمرّ \ ناحيةُ أولئك الذين يصعدون \ أولئك الذينَ يهطلون مطراً شفيفاً.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق